الجحيم قادم ولن يتوقف.. لماذا يضرب الجفاف أوروبا وما الذي يعنيه ذلك؟
الجحيم قادم ولن يتوقف.. لماذا يضرب الجفاف أوروبا وما الذي يعنيه ذلك؟
نهر اللوار هو أطول الأنهار فى فرنسا ينبع في إقليم الأرديش في جنوبي شرق جبل “لوماسيف سنترال” ويصب في خليج “غاسكونيا” في المحيط الأطلسي غربي البلاد. أُضيف الجزء الأوسط من واديه إلى قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو قبل نحو ربع قرن، وهي المنطقة التي تتميز بانتشار كروم العنب وقصور شهيرة بُنيت في عصر النهضة التي أكسبت النهر اسمه الشهير “النهر الملكي”. للوار حكايات غاية في التنوع والعمق تمتد على مدار صفحات التاريخ الفرنسي، لكن حكاية جديدة أُضيفت إليها مؤخرا ربما تكون أكثرها رعبا، حيث يتمكَّن الناس حاليا، في بعض المناطق، من عبور النهر الكبير مشيا على أقدامهم.
الأسوأ منذ 500 عام
إن الجفاف قد حضر، ولا يقف الأمر عند فرنسا وحدها، حيث انخفض منسوب نهر الراين مثلا، الذي يمر عبر سويسرا وفرنسا وألمانيا وهولندا. وفي إيطاليا، أُعلنت حالة الطوارئ في يوليو/تموز الماضي بعد نفوق العشرات من الأبقار بسبب الجفاف إثر تأثُّر شمالي البلاد بموجة حارة، تسبَّبت في جفاف أنهار مهمة مثل نهر بو، وهو أطول أنهار إيطاليا. الذي انخفضت مستويات المياه به عن المعدل الطبيعي بمقدار مترين، مع توقف هطول الأمطار في المنطقة منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
إسبانيا والبرتغال كذلك أعلنتا حالة الطوارئ بسبب الجفاف. وفي بريطانيا كان شهر يوليو/تموز هو الأكثر جفافا في إنجلترا منذ عام 1935، وبالنسبة لبعض المناطق كان الأكثر جفافا منذ بدء التسجيلات في عام 1836. وقد وصل الأمر أيضا إلى صربيا، وبلغاريا، ورومانيا، وكأنه غزو يجتاح أوروبا بأكملها.
في الواقع، حذَّر مركز البحوث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية (EC-JRC) قبل أيام قليلة من أن موجة الجفاف الحالية التي تضرب أوروبا قد تكون الأسوأ منذ 500 عام. كما وتوقع أن يتفاقم الجفاف الشديد في أوروبا بحيث من المحتمل أن يصل إلى نصف القارة بالكامل. والأسوأ من ذلك أن الأمر لن يتوقف قريبا، بل ربما يستمر خلال عدة أشهر قادمة.
كما كان فصلا الشتاء والربيع الماضيان جافَّيْن بشكل غير معتاد في أوروبا، تبعهما صيف أقل ما يقال عنه إنه “حارق”. حيث شهدت مجموعة من الدول الأوروبية درجات حرارة قاسية، في ضربات متتالية بلا توقف منذ مايو/أيار، لدرجة أنها تفوقت علينا في الوطن العربي جنوبا. وقد ترافق ذلك مع عدم تسجيل هطول أمطار غزيرة لما يقرب من شهرين في جميع أنحاء غرب ووسط وجنوب أوروبا. والأسوأ هو أن التوقعات للمستقبل القريب لا تُبشِّر بالخير، وهو ما دفع الخبراء للتعامل مع موجة الجفاف الحالية على أنها الأسوأ في القارة منذ خمسة قرون.
ضربة للاقتصاد
بسبب تلك الموجة من الجفاف، سرت في وسائل التواصل الاجتماعي أنباء مثيرة للانتباه عن كشوف جديدة خرجت من تحت المياه الأوروبية المُنحسرة. فمع جفاف الأنهار والبحيرات ظهرت في إيطاليا قنبلة ضخمة لم تنفجر بعد من بقايا الحرب العالمية الثانية بالقُرب من مدينة مانتوا. وإلى جوار سدٍّ جاف بالقُرب من برشلونة في إسبانيا، عاودت الكنيسة الرومانية، التي تعود للقرن التاسع، الظهور من تحت مياه النهر، وظهرت دائرة حجرية من عصور ما قبل التاريخ أطلقوا عليها اسم “ستونهنج الإسباني” في مقاطعة كاسيريس الوسطى.
لكن لم يدرك أحد أن أثر جفاف الأنهار يمتد إلى ما هو أعمق من ذلك. على سبيل المثال، تأثَّر إنتاج الذرة والأرز بوضوح في فرنسا، التي تواجه أيضا مشكلة جديدة من نوعها، حيث تعمل مياه الأنهار على تبريد المحطات النووية التي تُنتج 70% من كهرباء البلاد. ومع انخفاض منسوب المياه في تلك الأنهار، وارتفاع درجة حرارة المياه، تواجه تلك المحطات انخفاضا في طاقتها الإنتاجية.
وعلى بُعد أكثر قليلا من ألف كيلومتر في ألمانيا. يُعَدُّ نهر الراين شريان شحن رئيسيا، يتدفق من جبال الألب السويسرية إلى بحر الشمال عبر ألمانيا حاملا كل شيء من الحبوب إلى الكيماويات. وقد أدى انخفاض مستوى المياه فيه إلى توقف جزئي في عمليات الشحن بحيث باتت الشحنة الواحدة تُقسَّم على سفينتين أو ثلاث سفن، مما أدى إلى الكثير من التأخير وبالتالي ارتفاع التكاليف وموجة غلاء جديدة في ظروف ترتفع فيها الأسعار أصلا. على جانب آخر، تسبَّب انخفاض منسوب المياه في النهر في انخفاض معدلات توليد الطاقة الكهرومائية بنسبة 44% في إسبانيا، وكذلك في النرويج، التي تعتمد على الطاقة الكهرومائية لتوفير 90% من احتياجاتها من الكهرباء، ما دفع أوسلو للتأكيد أن المستويات المنخفضة بشكل غير عادي لخزاناتها المائية قد تُلزمها في النهاية بالحد من صادرات الطاقة.
المتهم رقم واحد
عند تلك النقطة ربما تسأل عن السبب في كل ذلك، وهنا سنعود إلى المرحلة الابتدائية، حيث تعلَّمنا في كتاب العلوم أن للماء على الأرض دورة واضحة وثابتة، تبدأ بتبخر المياه ثم سفرها مع السحب وسقوطها مرة أخرى، لكن مع احترار المناخ العالمي تتبخر كميات أكبر من المياه من الأنهار والتربة ومن النباتات نفسها المزروعة في هذه التربة، ما يتسبَّب في جفافها جميعا بشكل أسرع.
بجانب ذلك، تزداد قدرة الهواء على الاحتفاظ بتلك المياه بسبب الحرارة. عموما، يمكن للهواء الاحتفاظ بما قيمته نحو 7% رطوبة أكثر لكل ارتفاع قدره 1 درجة مئوية في الحرارة، وبذلك فإنه حينما يكون الكوكب أكثر احترارا بمقدار 2 درجة مئوية مثلا، مقارنة بعصر ما قبل الثورة الصناعية، فستتضاعف قدرة الهواء على احتمال بخار الماء بنسبة 14%، ما يعني بالتبعية فقدا في المياه يُعادل هذه النسبة.
من ناحية أخرى، فإن الاضطراب في منظومة المناخ بسبب الاحترار العالمي يُنشئ بالتبعية اضطرابا في منظومة الأمطار حول العالم، يظهر ذلك الأثر بصورة متنوعة للغاية، بمعنى أنه يُعيد تشكيل توزيعات المطر في كل الكوكب تقريبا، فتجد أن بعض المناطق ستتلقى كميات أمطار زائدة بصورة متطرفة في شكل موجات مطر قاسية، وقد تظن -للوهلة الأولى- أن ذلك قد يكون مفيدا للمناطق التي يحدث فيها، لكنه ليس كذلك، دعنا في تلك النقطة نتأمل اليمن، الذي قد يتعرَّض، بسبب موقعه الجغرافي، للمزيد من الأمطار نتيجة لارتفاع متوسط حرارة الكوكب. تلك التطرفات المطيرة تتسبَّب في عواصف شديدة وسيول، على سبيل المثال: في عام 2008، تسبَّبت السيول في خسائر قُدِّرت بنحو مليارَيْ دولار، أي ما يعادل نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
في المقابل، ستشهد مناطق أخرى انخفاضا واضحا في كميات الأمطار، وهذا هو ما يحدث بالنسبة للجبال التي تصنع مياه الأنهار الأوروبية، حيث تسقط الثلوج في الشتاء، ثم تذوب في الربيع لينطلق الماء في شرايين الأرض، لكننا الآن نعرف أن كميات الثلوج تنخفض شيئا فشيئا بتلك المناطق بسبب ارتفاع درجات الحرارة، ما يُقلِّل من كميات المياه الواردة إلى تلك الأنهار.
أضف إلى ذلك أن تأثيرات موجات الجفاف الشديد، بسبب الاحترار العالمي، تضرب التربة أيضا، فتُقلِّل من قدراتها على تحمُّل المياه، ما قد يتسبَّب في الفيضانات (لأنها لا تمتص الماء ولكن تُمرِّره فقط)، وكذلك ترتفع ملوحتها، فتتجه إلى التصحر، خاصة في المناطق التي ترتفع بها معدلات التصحر من الأساس.
في دراسة أُجريت عام 2020 في مجلة “ساينس”(7) المرموقة، لاحظ الباحثون كيف أن تغير المناخ الذي يُسبِّبه الإنسان يساهم في الجفاف الضخم الحادث بالفعل في القرن الحادي والعشرين في غرب الولايات المتحدة وشمال المكسيك. ووفقا لتقرير أغسطس/آب 2021 الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغير المناخ(8)، فإن العلماء لديهم ثقة عالية في أنه مقابل كل ارتفاع بمقدار نصف درجة مئوية في درجة حرارة الغلاف الجوي، ستحدث زيادات ملحوظة في نِسَب الجفاف عالميا، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية.
يُشير التقرير كذلك إلى أن أحداث الجفاف البيئي والزراعي المتطرفة التي كانت تحدث مرة كل 10 سنوات أصبحت الآن أكثر احتمالية بمقدار 1.7 مرة مما كانت عليه في الفترة بين عامَيْ 1850-1900 (أي قبل أكثر من قرن من الزمان)، ويتفق الباحثون كذلك على أن التغير المناخي لا يرفع فقط من معدلات الجفاف، بل كذلك من شدة موجات الجفاف، وطول كل موجة منها، وهذا واضح في الحالة الأوروبية الحالية خاصة.
مستقبل أكثر جفافا
لكن المشكلة الحقيقية ليست في الحاضر، بل في المستقبل الذي يتأمله العلماء بنظرة يملؤها الرعب، ففي دراسة أجرتها جامعة كامبريدج(9) في العام الماضي، جاء أن موجات الجفاف الصيفية في أوروبا منذ عام 2015 كانت أكثر حِدَّة من أي فترة أخرى خلال 2100 عام مضت (تأمل الرقم!). نُشرت الدراسة في مجلة “نيتشر” المرموقة، وأعادت بناء الطقس الصيفي على مدى كل تلك الفترة من خلال تحليل حلقات أشجار البلوط الحية والميتة في جمهورية التشيك الحديثة وجنوب ألمانيا، لتؤكد أن “تغير المناخ الذي يُسبِّبه الإنسان” كان المتهم الرئيسي في ذلك على الأرجح.
لكن التغير المناخي لا يتوقف، والأسوأ من ذلك أنه قد طالنا بالفعل ولا مجال للتراجع عن ضرباته لأكثر من نصف قرن، وهذا إن قرَّرنا الآن التوقف عن الجدل السياسي والبدء في حوار عالمي مفتوح يتفق فيه الجميع على الشيء نفسه، لكن كما تلاحظ، فإن العكس تماما هو ما يحدث، دخل العالم في مجموعة من الاضطرابات السياسية تُنبئ بأننا أبعد ما يكون عن الاتفاق.
في هذا السياق، تتوقع الكثير من الدراسات(10،11) أن التغير المناخي سيرفع تدريجيا من معدلات وشدة وطول موجات الجفاف خلال القرن الحالي، وتُشير النتائج إلى “مناطق حرجة” كبيرة يُتوقع فيها حدوث تغييرات كبيرة متعلقة بالجفاف، وخاصة في جنوب وجنوب شرق أوروبا. في تلك المناطق قد تتكرر موجات الجفاف التي تحدث مرة كل 100 عام بمعدل أقل، فتحدث مرة كل 10-50 عاما فقط، وفي المجمل يميل العلماء إلى الاتفاق على شيء واحد: من المرجَّح أن يصبح الجفاف أكثر حِدَّة في خمسينيات القرن الحالي وما بعدها.
كانت دراسة أجرتها وكالة ناسا(12) قد حذَّرت من مستقبل شبيه، حينما أشارت إلى أن احتمالية حدوث موجات جفاف كبيرة -تدوم الواحدة منها 10 سنوات أو أكثر- سترتفع من نسبة 12% حاليا إلى أكثر من 60% بحلول نهاية القرن. بناء على كل تلك التوقعات، أشارت دراسة أخرى في دورية “نيتشر”(13) إلى أن خسائر الجفاف السنوية في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة سترتفع إلى أكثر من 65 مليار يورو سنويا مقارنة بـ9 مليارات يورو سنويا حاليا، وخاصة في الأجزاء الجنوبية والغربية من أوروبا، حيث يمكن لظروف الجفاف أن تُقلِّل من الناتج الاقتصادي الزراعي الإقليمي بنسبة 10%.
حسنا، كان هذا متوقَّعا منذ عقود، لكن الجدل السياسي استمر على أية حال، ما أوصلنا إلى هذه النقطة، ظنَّ البعض في أوروبا والولايات المتحدة أن التغير المناخي لن يطولهم، ثم ها هو يمد يديه ليعبث بكل بقاع العالم، وتُشير الأبحاث في هذا النطاق إلى أن القادم أسوأ، هذا ولم نتحدث بعد عن أثر المناخ على الاقتصاد والسياسة وتطور الحروب والثورات والأمن في كل دولة، حرفيا كل دولة في هذا العالم، بلا استثناء.